قصة
احتضاري
محمد سعيد الراشدي
ناحلاً.. طويلاً.. ومثقلاً بالوجع حد الفناء.. يفترش جسدي مساحة السرير الخشبي المطلي بالقطران، بحباله المتهدلة للأسفل، مكوماً في زاوية معتمة من الحجرة القديمة التي تمازج عتمتها رائحة بخور عدني، تنثره أمي كل صباح في أرجاء الغرفة، مع قبلة دافقة على جبين وحيدها القاطن مع العتمة، والمرض وخشخشة الجرذان، وصرير الجنادب.
هكذا كانت أيامي الماضية، محض ألم، ورتابة وشعور غامض أن شبحاً ثقيلاً يحوم حول سريري.
مذ عدت ذلك المساء ولساني يمج شكوى مفزعة كتلك التي مات بها «خضر» قبل أعوام ثلاثة. اليوم بدا كل شيء جليا، واضحاً، أنفاسي حبال مهترئة أشدها بوهن باذخ، وثمة أكف لها برودة الثلج تنزرع بهدوء على صدري العاري، تدب باتجاه القلب، تطيل المكوث متجبسسة على نبضي المتقهقر عن لهاثه وكأنما هو ينذر بالاضراب عن دق حائط الضلوع التي بدت ماثلة مرتدية اللحم الداكن الموشوم ببقايا الكي المحفور على صدري أخاديد، محاطة بهالات من دواء أحمر، كانت أمي كل صباح تعصره على صدري من قطنة متسخة، وحين تلمح تقلصات الألم على وجهي، تذرف دموعها بغزارة وتنصرف.
الأيدي ذاتها، تتحسس وجهي، تمسح العرق الطافح على جبهتي، وتداعب شعري بحنان ينذر أن شيئاً ما سيكون.. ملوحة حارقة تضطرم في حلقي.. تحرض السعال الحاد على بعثرة هدوئي.. ألمح يداً كيد أبي تدلق الماء في فمي القاحل من طرف طاسة مثقوبة.. قطرات الماء تخر من الثقب.. تنساب على صدري ممتزجة مع بقع الدواء الأحمر، وتنحدر نحو الفراش الرطب، العاطن بروائح أدوية وقيء وعرق.
الرعشة تسري عبر أطرافي المتخشبة، المطمورة برمضاء الحمى، صوت خافت يكسر صمت المكان «لحفوه، لحفوه».. الأيدي تتنازع الدثار المطري تحت ساقي اللتين تجاوزتا حافة السرير، يعبث بهما طفل يغرس أصابعه بنهم في الشقوق الملأى بالصديد والدم الخاثر!...
«سعد» رفيق البؤس الطفولي، والفشل المدرسي، وأمسيات المقاهي والمطر، ينثر الدثار الثقيل على ركام أعضائي، ويثني ركبتيه بجانب السرير، تلفحني أنفاسه الهادئة، ورائحة فمه، ونبرته المبحوحة... «كيف أنت».. أزيح جفني ببطء.. رجال كثيرون لهم سحنة الحزن تكتظ بهم الغرفة الضيقة.. وجه أبي مواسم من أسى ودموع، بكاؤه الخافت يشي بحتمية المصير.
سؤال «سعد» ما يزال يخزني كشوكة.. استجمع نثار الحروف على لساني المتصلب كفلقة صخر، أقبض بفتور على حبال السرير.. ورفيف جفني إجابة موحشة!
«سعد» يستيقن عجزي.. وينكفيء على جبيني.. يسكب قبلات.. ويبوح بهسيس متقطع. ترى أين أمي؟! ما حالها؟! مؤكداً انها لن تراني.. هؤلاء الرجال الذين تكتظ بهم الغرفة منذ الصباح يمنعون مجيئها لو أن لي بهم قوة!!.. روحي العطشى تتشهى لمستها وقبلتها، تحن للارتواء بدمعها.. مقطع قديم يقفز إلى الذاكرة المجهدة.
أحن إلى لمسة أمي.
وأعشق عمري لأني
إذا مت أخجل من دمع أمي
تتراءى لي أمي هناك، يحطن بها النسوة المتشحات بالسواد، يقلن لها كلاماً لا تعقله.. ترى كم ستسفح من الدمع لفقدي.. وماذا سيحدث لها بعدي؟
أسئلة تتوغل في روحي بوخز دام.. والكلمات حجارة تتراكم في فمي.
«يا جماعة أذكروا الله».. قالها «صالح» إمام المسجد، مد الجميع أصواته بتهليل جماعي، واقتعد هو طرف السرير بجانبي، وما زالت الهسهسات المكتوبة تشي بتحمية المصير، والعرق الطافح على جبهتي يحرق وجهي بملوحته.. يتسرب إلى فمي.. يمازج ملوحة حلقي.. اختنق وأحشرج.
يد «صالح» المبتلة بالماء تجوس خلال وجهي.. وأسمعه يردد «قل: لا إله إلا الله».. وتأخذني السكرة إلى حيث لا أدري.. تتمازج الأصوات في أذني.. يمعن الطفل في غرس أصابعه في قدمي.. أفيق وشيء ما ينجرف في بداخلي.. سيوف تتوغل في لحمي.. قواي ذابت تماما في حميم الألم.
«قل: لا إله إلا الله».. وذلك المنجرف بداخلي يرتدم في حلقي.. ينحسر الدثار عن صدري.. يشهق أبي.. ينزع الطفل أصابعه بذعر ويهرب.. «سعد» بات يعرف الإجابة، بعد اليوم لن نجلس معاً.. لن نحتسي شاي العصر معاً.. لن يجد من يقاسمه الحمام والدجاج وعلب الصفيح والأرغفة.. بعد اليوم سيجلس في المقهى وحيداً.. وسيطرد من المدرسة وحيداً.. وسيذكرني وحيداً.. وحيداً.. وحيداً.
رعدة قاسية تهزني بعنف.. تبوح حنجرتي بغرغرة مخيفة.. يبكي الطفل.. يصرخ أبي.. ويكسوني هدوء غريب.